ازدحام وضوضاء ومشاغل لا تنتهي.. هكذا أصبحت حياتنا جميعا. ننسى كثيرا أن لدينا فيضا من المشاعر والأحاسيس التي تضيع وسط العمل والمسؤوليات وغيرها. لكن هناك أيضا تفاصيل أخرى تذكرنا دائما بالحب! فيبقى هو السمة التي تجمعنا مهما اختلفنا.
وعلى سيرة الحب.. أطلقت منصة نتفليكس هذا الأسبوع مجموعة من الأفلام القصيرة تحت عنوان “في الحب والحياة” لمخرجين ومخرجات من دول عربية مختلفة، تتناول موضوع الحب بطريقة الكوميديا السوداء من وجهات نظر مختلفة.
تحدثْت مع أنطوان خليفة، منتج السلسلة، عن الفكرة وعن البداية، فقال لي إن “فكرة إنتاج سلسلة من الأفلام القصيرة لطالما كانت موجودة، ولكن مع بداية جائحة كورونا، والصعوبات التي بدأت تلف حياتنا، تساءلنا… ما هو الموضوع المشترك بيننا جميعا ويمكننا التركيز عليه. تواصلنا مع كاتبة السيناريو المصرية عزة شلبي التي اقترحت موضوع الحب ولكن بطريقة بعيدة عن الكلاسيكية، أي بطريقة الكوميديا السوداء”.
المرحلة الثانية من بداية المشروع ركزت، وفقا لخليفة، على المخرجين والمخرجات الذين سيتم اختيارتهم لتنفيذ الأفلام القصيرة. الأمر لم يكن صعبا، نظرا لخبرة أنطوان خليفة في المجال السينمائي، ومعرفته لمجموعة مهمة من صناع وصانعات الأفلام في الدول العربية. أعجبني جدا وصف أنطوان خليفة لنظرته نحو هؤلاء المخرجين والمخرجات بالقول: “عملت سابقا مع الكثير منهم وبكل صراحة كانت معجبا ومحبا جدا للعالم الذي يحيط بهم”.
خلال الحوار مع أنطوان، بدت الابتسامة تتسلل إلى وجهه وهو يتحدث عن اللحظة التي تلقى فيها الفريق السيناريوهات من المخرجين والمخرجات، فقال: “عندما وصلتنا النصوص فوجئنا وشعرنا بالراحة في نفس الوقت، فكانت القصص مجنونة، ولكنها تحتوي على الكثير من العناصر الخلاقة، ودخلنا منذ ذلك الحين في عالمهم.”
“مسلخ السعادة”.. عن أي سعادة نتحدث
“مسلخ السعادة” هو عنوان فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية، التي لمعت سابقا في أفلام مثل “على كف عفريت” و “الرجل الذي باع ظهره”، وقدمت في هذا الفيلم قصة تركز على الجانبين المادي والتجاري الذي أصبح يحيط بكل تفاصيل حياتنا، حتى في الحب. أحداث الفيلم تدور في يوم واحد، هو يوم الحب، وينطبق عليه المثل القائل: “البلاوي (المشاكل) عندما تأتي، تأتي دفعة واحدة”. قررت كوثر بن هنية في هذا الفيلم أن تقدم أحداثا تدور في زمن سابق (ربما في العقد الأخير من القرن الماضي)، لتذكرنا أن الجانب التجاري والاستهلاكي لعيد الحب ليس صنيعة اليوم، وإنما هو بيننا وحولنا منذ زمن بعيد. تقدم كوثر بن هنية شخصياتها بشكل سريالي، تستخدم فيه الرمزية بين المشاهد المختلفة، وكأنها تقول إن إنسان اليوم، أو العصر الجديد، لا يمكنه أن يتحرك من دون المال. كل شخصياتها مرتبطة ببعضها البعض بالمال، فهذا يدين هذا، وهذا يطلب مالا من هذا وهذا يرشي ذاك.
أجمل ما يمكن أن تحصل عليه في مقابلة مخرجة مثل كوثر بن هنية هو ذلك الهدوء والسكينة في إجاباتها التي تجعل الفيلم يبدو وكأنه أنجز من دون أي صعوبات أو عقبات أو تحديات. تحدثت عن سبب تركيزها على الجانب المادي والتجاري في تقديم القصة بالقول: “سعدت كثيرا عندما اتصل بي أنطوان وطلب مني تقديم فيلم عن الحب، وسعدت أكثر لأنني سأقوم أيضا بكتابة الفيلم. فأنا أحب رواية القصص وأعشق الكتابة، وفي كل أفلامي كنت الكاتبة أيضا. فكرت في فكرة تتمركز حول الجانب المادي لعلاقاتنا في الزمن المعاصر، فكل العلاقات أصبحت بحاجة إلى الفلوس”.
من فيلم “مسلخ السعادة” لـ كوثر بن هنية, plain_textCredit: Netflix, Inc.وتابعت كوثر بالقول: “القصة وراء هذا الفيلم هي الحالة الاقتصادية الصعبة. لذا كان الربط بين فكرة المال والحب هو أساسا قويا لتقديم فيلم يعتمد على الكوميديا السوداء. أنا دائما ما أحب مزج عوالم هي منفصلة في مخيلتي ولكنها مرتبطة مع بعضها في الواقع. وحتى السخرية امتدت لتصل إلى العنوان لأن هذا الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الناس ما هو إلا مسلخ كبير للسعادة”.
تميز فيلم “مسلخ السعادة” أيضا باستعارته البصرية من أفلام أخرى. شخصيا رأيت في هذا الفيلم رمزية أفلام الفرنسي جان لوك غودار، وعبثية إيليا سليمان في أفلامه، كما أنها قدمت تفاصيل الحياة اليومية في تونس بشكل بسيط، يجعل من هذه القصة قصة تونسية بامتياز.
“سيدي فالنتاين”.. المظاهر التي تخدع
في فيلم “سيدي فالنتاين” يقدم المخرج المغربي هشام لعسري قصة تدور أحداثها أيضا في يوم واحد لشاب تنقسم حياته ما بين الماضي والحاضر، ويعيش مظاهر ليس بالضرورة أن تعكس شكل حياته الحقيقية. الفيلم يتناول بطريقة سريالية أيضا ذلك الجانب التجاري في حياتنا، والطبقات التي نضطر في بعض الأحيان أن نعيشها حتى نتمكن من التواؤم مع المجتمع من حولنا.
بينما كنت أشاهد الفيلم، شعرت لوهلة أن هذه الحكاية هي جزء من قصة هشام الشخصية. وعندما سألته، قال: “هي ليست قصة واحدة من حياتي، وإنما مجموعة من القصص، ربما إحداها هي قصة سحب السيارة التي شاهدناها في الفيلم.”
هشام فاجأني خلال اللقاء أنه عاشق للمعلقات، وهي كانت الروح التي يهتدي بها هشام في فيلمه. فعقّب على ذلك بالقول: “إحدى المعلقات المفضلة لدي هي معلقة عمرو بن كلثوم التي يقول فيها: ألا لا يعلم الأقوام أنّا … تضعضنا وأنا قد ونينا.. ألا لا يجهلن أحد علينا.. فنجهل فوق جهل الجاهلينا… وأنا أرى أن الحب في العالم العربي عموما هو فكرة لا تتجاوز حدود المشاعر، ولا تطبق بشكلها الكامل لدينا. ومن هنا أيضا جاء اختياري لإضافة أغنية عبد الحليم حافظ في مدينة مثل الدار البيضاء وهي مدينة في أبعد نقطة في العالم العربي”.
من فيلم “سيدي فالنتاين” للمخرج المغربي هشام لعسري, plain_textCredit: Netflix, Inc.هذا الفيلم يجسد أيضا شكلا من أشكال النضال، فنحن عندما نختار الحب عادة ما نكون في صراع مع المجتمع”.
أكثر ما تميز في هذا الفيلم هو الشريط الصوتي الذي ينقل المشاهد بين عوالم مختلفة، فهو ينقلنا بين طفولة الشاب وواقعه، يأخذنا إلى شكل الحب في الأفلام والمسلسلات من خلال صوت عبدالحليم، إلى الواقع المريع والبشع المتمثل برجال الأمن، يدخل في خبايا نظرات الإعجاب بين الشاب والفتاة، ويذكرنا دائما أن الحب بين اثنين مرغوب ولكنه يحارب من كل في المجتمع.
مشاهدة فيلم “مسلخ السعادة” و “سيدي فالنتاين” كانت تجربة ممتعة جدا بالنسبة لي، ولكن أخذتني لسؤال آخر، هو: أين هذه الأفلام المغاربية من شاشتنا؟ وإلى متى سيبقى حاجز اللهجة هو حجتنا هنا في المشرق العربي؟
أنطوان خليفة أكد أن مثل هذا السؤال مهم جدا، ويجب أن يطرح دائما. وقال: “عندما نقرر العمل مع مخرجين ومخرجات من شمال أفريقيا، فهذا لأننا نسعى دائما إلى أن نكون قريبين من هذه السينما لأنها سينما خلاقة. فعرض هذه الأفلام هو واجب علينا، ولا يجب أبدا أن يستخدم اختلاف اللهجات حجة أو عذرا للتهرب من ذلك”.
أما كوثر بن هنية فتؤكد على ما قاله خليفة بالقول إن السينما في نهاية المطاف تعتمد على الصورة وليس على اللهجة، فمع وجود الترجمة أو إضافة النصوص المكتوبة إلى الشاشة أصبحت حجة اللهجة هي حجة واهية. وللأسف الشديد نحن في العالم العربي ليست لدينا خطوة أو نظرة موحدة، ليس في السينما فحسب وإنما أيضا في كل شيء.
غير أنها تؤكد أيضا أن السنوات الأخيرة شهدت بعض التغيرات في الموارد المالية التي تعطينا قوة كمخرجين عرب، وهذه التجربة مع نيتفليكس ستفتح الأبواب لحضور جماهيري أكبر لما نقدمه.
أما هشام لعسري فيرى أن المهرجانات العربية فتحت مجالا أمام صناع الأفلام المغاربة بالتواجد في الدول العربية، فهم فقط يتواجدون بأفلامهم في مهرجانات أوروبية وأمريكية، فبالتالي تصنع هذه المهرجانات العربية قناة للتواصل ما بينهم وبين الجمهور العربي. وقد تكون نيتفليكس اليوم هي الطفرة الجديدة التي تصنع هذا التقارب مع الجمهور العربي والعالمي في آن واحد. أما بالنسبة لعامل اللهجة فيرى هشام أنه لم يعد عائقا خصوصا وأن هناك الكثير من المطربين من المغرب العربي ممن أثبتوا حضورهم في الدول العربية.